خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 14 من رمضان 1443هـ - الموافق 15 / 4 / 2022م
الْمُعْجِزَةُ الْخَالِدَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَنْـزَلَ كِتَابَهُ العَزِيزَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ، وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا، وَجَعَلَهُ مُعْجِزًا فَلَوِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، بَعَثَهُ رَبُّهُ هَادِياً وَبَشِيرًا، وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيرًا، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْقُرْآنِ عَلَى عِلْمٍ، وَانْشَرَحُوا بِهِ صُدُورًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَأُوصِيكُمْ - أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ - وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ فَإِنَّ الْفَوْزَ فِي أَنْ تَتَّقُوا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَتَفَرَّقُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الهَدْيِ هَدْيُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الـمُسْلِمُونَ:
لَقَدْ أَرْسَلَ اللهُ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الكُتُبَ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْمُعْجِزَاتِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِمْ، وَتُبَرْهِنُ عَلَى أَمَانَتِهِمْ. وَلَـمَّا كَانَ النَّاسُ مُتَفَاوِتِينَ فِي عُقُولِهِمْ وَمَدَارِكِهِمْ، وَمُخْتَلِفِينَ فِي بِيئَاتِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ؛ فَقَدْ آتَى اللهُ كُلَّ نَبِيٍّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ- علَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ مُعْجِزَةً تُنَاسِبُ قَوْمَهُ، فَلَمَّا كَانَ السِّحْرُ فَاشِياً فِي قَوْمِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيَّدَ اللهُ تَعَالَى مُوسَى بِالْعَصَا فَتَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا مِنْ بَاطِلٍ فِي حِبَالِهِمْ وَعِصِيِّهِمُ الَّتِي سَحَرُوا بِهَا أَعْيُنَ النَّاسِ ]فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [ [الأعراف:118ـ122].
وَحِينَ كَانَ الزَّمَنُ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ عِيسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ـ قَدْ عَلَا فِيهِ الطِّبُّ وَبَرَعَ فِيهِ قَوْمُهُ؛ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى مُعْجِزَةً مِنْ جِنْسِ مَا تَفَوَّقَ فِيهِ قَوْمُهُ؛ فَكَانَ يُحْيِي المَوْتَى؛ ويُبْرِئُ الأَبْرَصَ وَالْأَكْمَهَ الَّذِي يُولَدُ أَعْمَى، ويَخْلُقُ لَهُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَيَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ بُدٍّ فِي وَجْهِ هَذِهِ الـمُعْجِزَاتِ البَاهِرَةِ الَّتِي فَاقَتْ طَاقَاتِهِمْ وَقُدُرَاتِهِمْ إِلَّا أَنْ أَذْعَنُوا أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَلَـمَّـا كَانَ الْعَرَبُ أَرْبَابَ الفَصَاحَةِ وَالبَلَاغَةِ، وَفُرْسَانَ البَيَانِ وَالْخَطَابَةِ؛ جَـعَلَ اللهُ مُعْجِزَةَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جِنْسِ مَا تَفَوَّقُـوا فِيهِ وَأَنْجَزُوا، وَقَدْ تَحَدَّى اللهُ الإِنْسَ وَالْجِـنَّ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ فَعَجَزُوا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا[ [الإسراء:88].
عِبَادَ اللهِ:
إنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ أَنْزَلَ كِتَابَهُ الْعَزِيزَ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ، أَنْـزَلَهُ سُبْحَانَهُ بِعِلْمِهِ: مَنْهَجَ حَيَاةٍ، وَأُسَّ شَرِيعَةٍ، وَدُسْتُورَ أُمَّةٍ، وَجَعَلَهُ خَاتَمَ الكُتُبِ لِخَاتِمَةِ الرِّسَالَاتِ وَعَلَى خَاتَمِ الْـمُرْسَلِينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ حَوَى كَثِيرًا مِنْ عُلُومِ الشَّرَائِعِ الأُولَى وَمَبَادِئِهَا وَأَخْلَاقِهَا، وَزَادَ عَلَيْهَا حتَّى صَارَ نَاسِخاً لَهَا وَمُهَيْمِناً عَلَيْهَا.
فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَنَا، وَخَبَرُ مَا بَعْدَنَا، وَحُكْمُ مَا بَيْنَنَا، هُوَ الفَصْلُ لَيْسَ بالْهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ اللهُ، وَمَنِ ابْتَغَى الْهُدَى فِي غَيْرِهِ أَضَلَّهُ اللهُ، وَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْـمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ وَالصِّرِاطُ الـمُسْتَقِيمُ، لَا تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلَا يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَمَاءُ، وَلَا تَلْتَبِسُ مِنْهُ الأَلْسُنُ، وَلَا يَبْلَى عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ تَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ حَتَّى قَالُوا: إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ. مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِليْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
إِنَّهُ –يَا عِبَادَ اللهِ- مُعْجِزَةُ الْـمُعْجِزَاتِ، وَأَعْظَمُ الآيَاتِ الخَالِدَاتِ، سَمَّاهُ اللهُ نُورًا وَذِكْرًا وَفُرْقَاناً وَوَحْياً وَرُوحاً، أَحْيَا بِهِ أَرْوَاحًا بِالنُّورِ وَالْهِدَايَةِ، فَفَرَّقَ بِهِ بَيْنَ الحَقِّ وَالبَاطِلِ وَالْغَوَايَةِ، وَوَصَفَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَوْلِهِ: ]يَاأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ[ [يونس:57].
وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى الخَيْرِيَّةَ لِحَفَظَتِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الأَفْضَلِيَّةَ لِحَمَلَتِهِ، فَقَدْ رَوَى أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ لِلَّهِ – عَزَّ وَجَلَّ – أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ. قِيلَ مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: أَهْلُ القُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخاصَّتُهُ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ].
وَسَيَكُونُ شَفِيعاً لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ فَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «اقْرَؤُوا القُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ شَفِيعاً لِأَصْحَابِهِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ].
وَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى الْخَيْرِيَّةَ لِمَنْ تَعَلَّمَهُ، ثُمَّ عَلَّمَهُ النَّاسَ؛ فَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ».
وَكَمْ مِنْ أَقْوَامٍ رُفِعُوا بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ فَسَمَا بِهِمْ مِنْ رُعَاةٍ لِلْغَنَمِ إِلَى قَادَةٍ لِلْأُمَمٍ!!، وَكَمْ مِنْ أُنَاسٍ وُضِعُوا بِبُعْدِهِمْ عَنْ هَدْيِهِ الكَرِيمِ وَتَجَنُّبِهِمْ صِرَاطَهُ الْـمُسْتَقِيمَ!!، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَاماً وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ].
مَنْ أَجَادَهُ وَأَتْقَنَ لَفْظَهُ وَحَفِظَ حُدُودَهُ رُفِعَ فِي عِلِّيِّينَ، وَكانَ مَعَ البَرَرَةِ الـمُطِيعِينَ؛ كَمَا رَوْتَ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَاللَّفْظُ لَهُ ].
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
وَمَنْ قَرَأَ مِنْهُ حَرْفاً كَانَ لَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ؛ فَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَرَأَ حَرْفاً مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ:(ألم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ:أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ]. وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرْآنِ:اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ مَنْـزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ،
أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ العَلِيَّ الْعَظِيمَ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ القُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ؛ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، عَامَلَ أَهْلَ الإِحْسَانِ بِالإِحْسَانِ، وَأَهْلَ الإِسَاءَةِ بِالْعَفْوِ وَالْغُفْرَانِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمَبْعُوثُ بِالهُدَى وَالرَّحْمَةِ إِلَى الإِنْسِ وَالْجَانِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أُولِي الْفَضْلِ وَالْعِرْفَانِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، وَاسْتَمْسِكُوا مِنَ الدِّينِ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى.
أُمَّةَ القُرْآنِ الْعَظِيمِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: ]شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ[ [البقرة:185]، فَلَمَّا كَانَ رَمَضَانُ شَهْرَ الْقُرْآنِ وَالْبِـرِّ وَالإِحْسَانِ؛ فَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ - رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ - يَتَسَابَقُونَ إِلَى الطَّاعَةِ وَتِلَاوَةِ القُرْآنِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى كَأَنَّمَا خُصَّ رَمَضَانُ بِالْقُرْآنِ، فَكَانُوا يَعْكُفُونَ عَلَيْهِ قِرَاءَةً وَتَدَبُّرًا، وَبُكَاءً وَتَخَشُّعاً، يَهْجُرُونَ الْمَضَاجِعَ لِأَجْلِهِ، وَيَسْتَغْنُونَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ غَنَاءً بِفَضْلِهِ.
وَكَانَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يُدَارِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فِي رَمَضَانَ. وَكَانَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً، وَكَانَ لِلشَّافِعيِّ -رحِمَهُ اللهُ- فِي رَمَضَانَ سِتُّونَ خَتْمَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَخْتِمُهُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَبَعْضُهُمْ فِي كُلِّ سَبْعٍ، وَبَعضُهُمْ فِي كُلِّ عَشْرٍ. وَكَانَ قَتَادَةُ - رَحِمَهُ اللهُ- يَخْتِمُهُ فِي رَمَضَانَ فِي كُلِّ ثَلَاثٍ، وَفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ يَخْتِمُهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ. وَكَانَ الزُّهْرِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ - رحِمَهُمَا اللهُ- إِذَا دَخَلَ رَمَضَانُ تَرَكَا مَجَالِسَ الْعِلْمِ وَعَكَفَا عَلَى تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَهَكَذَا هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ.
قَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (يَنْبَغِي لِقَارِئِ الْقُرْآنِ أَنْ يُعْرَفَ بِلَيْلِهِ إِذِ النَّاسُ نَائِمُونَ، وَبِنَهَارِهِ إِذِ النَّاسُ مُفْطِرُونَ، وَبِبُكَائِهِ إِذِ النَّاسُ يَضْحَكُونَ، وَبِوَرَعِهِ إِذِ النَّاسُ يَخْلِطُونَ، وَبِصَمْتِهِ إِذِ النَّاسُ يَخُوضُونَ، وَبِخُشُوعِهِ إِذِ النَّاسُ يَخْتَالُونَ).
فَأَقْبِلُوا -يَا رَعَاكُمُ اللهُ- عَلَى مَائِدَةِ القُرْآنِ؛ فَهُوَ حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَالنُّورُ الْـمُبِينُ، أَحِلُّوا حَلَالَهُ، وَحَرِّمُوا حَرَامَهُ، اقْرَؤُوهُ بِتَدَبُّرٍ وَسَكِينَةٍ؛ فَفِي قِرَاءَتِهِ انْشِرَاحٌ وَطُمَأْنِينَةٌ، ]إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا[ [الإسراء:9-10].
اللَّهُمَّ اجْعَلِ القُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا وَنُورَ صُدُورِنَا، وَذَهَابَ هُمُومِنَا وَجَلَاءَ أَحْزَانِنَا، وَقَائِدَنَا وَسَائِقَنَا إِليْكَ وَإِلَى جَنَّاتِكَ جَنَّاتِ النَّعِيمِ، وَدَارِكَ دَارِ السَّلَامِ. اللَّهُمَّ ذَكِّرْنَا مِنْهُ مَا نُسِّينَا، وَعَلِّمْنَا مِنْهُ مَا جَهِلْنَا، وَارْزُقْنَا تِلَاوَتَهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ، وَاجْعَلْهُ حُجَّةً لَنَا وَلَا تَجْعَلْهُ حُجَّةً عَلَيْنَا. اللَّهُمَّ سَلِّمْنَا لِرَمَضَانَ، وَوَفِّقْنَا فِيهِ لِأَعْمَالِ القَبُولِ وَالرِّضْوَانِ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ. اللَّهُمَّ احْفَظْ أَمِيرَ البِلَادِ وَوَلِـيَّ عَهْدِهِ، وَوَفِّقْهُمَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَاجْعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً، دَارَ عَدْلٍ وَإِيمَانٍ، وَأَمْنٍ وَأَمَانٍ، وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة